لسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
عمرت الأرض بأبناء سيدنا آدم وكثر الناس وأصبحوا شعباً عظيماً يعبدون الله ولا يسجدون لسواه .
اشتهر من بينهم خمسة رجال طيبون ،عُرفوا بالصلاح والتقوى وطهارة القلب وكانت أسماؤهم :وَدّاً وسُوَعاً ويَغُوث ويَعُوق ونَسْراً ،أحب الناس هؤلاء الرجال الخمسة وكانوا يستمعون إليهم وإلى نصائحهم ويقتدون بهم وبأخلاقهم. ولما مات هؤلاء الرجال الخمسة حزن الناس عليهم حزناً شديداً وكانوا يتمنون أن يخلدوا في هذه الحياة ، وسوس إبليس للناس أن يصنعوا تماثيل لهم توضع في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها وتسمى بأسمائهم ففعلوا.
وكان الناس يذهبون إلى الأماكن التي نصبت فيها هذه التماثيل أما سكان الجهات البعيدة فإنهم كانوا يتجهون إلى هذه الأماكن يقضون أياماً يتبركون بهذه التماثيل ويسألون الله في هذه الأماكن المقدسة أن يغفر لهم ، فلما مات هؤلاء الرُحّل وجاءت أجيال أخرى بالغوا في تعظيم هذه التماثيل واعتقدوا أن آباءهم وأجدادهم كانوا يتوسطون بهذه التماثيل بينهم وبين الله .
ولما شق على كبار السن السفر صنعوا تماثيل مثلها في بلادهم ، ثم نسي الناس أن هذه التماثيل للرجال الخمسة الطيبين وظنوها أصنام ، ثم اعتقدوا أنها آلهة ونسوا ربهم واتخذوا من دونه هذه التماثيل وعكفوا على عبادتها .
"قال نوح ربِ إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا..ومكروا مكراً كبارا..وقالوا لا تذرن وداً ولا سوعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا..وقد أضلوا كثيراً ولا تزد الظالمين إلا ضلالا"
هؤلاء الناس أضلهم الشيطان وأغواهم ونسوا الله ولكن الله لاينسى عباده فاختار سبحانه لهدايتهم رجلاً نشأ بينهم كان فقيراً ولكنه كان نقياً طاهراً حفظه الله من شرور القوم وهو سيدنا نوح.
(2)
ذهب نوح إلى الطيبين من قومه وهم الفقراء يدعوهم سراً إلى عبادة الله وحده وترك الأصنام ،وأنذرهم أن من يعرض عن دعوته فإن الله سيعاقبه عقاباً شديداً ،فآمن به القليل منهم.
ثم ذهب نوح بعد ذلك إلى أشراف قومه وحاول دعوتهم إلى ترك عبادة الأصنام ولكن لم يطعه أحد وقالوا له :ما نراك إلا بشراً مثلنا ،لن نؤمن بك ولن نتبعك ،لست بأغنانا ولست ملكاً ذا شأن أو عظيماً ذا مكانة إنما أنت فقير وما تبعك إلا الذين هم أراذلنا ، فإن كنت ترجو من دعوتك هذه مالاً فخذ من أموالنا وارجع إلى عبادة آلهتنا وآلهتك.قال لهم نوح :لاأسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الله وما أريد لكم إلا الخير.. ولكنهم تركوه وذهبوا عنه.
"ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين..أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم..فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين..قال يا قوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربي وءاتني رحمة من عنده فعمّيت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون..ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون"
ولكن سيدنا نوح لم يتطرق اليأس إلى قلبه ،بل عزم عزماً أكيداً أن يعود إلى نصحهم وهدايتهم وحاول معهم مرات ومرات ولكنهم ازدادوا عناداً واستكباراً ،وأصروا على عبادة آلهتهم ثم غطوا وجوههم بملابسهم حتى لا يبصروه ووضعوا أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوه.وقال أحدهم :يا نوح لقد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين .قال نوح عليه السلام :إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين .ثم انصرف عنهم في حزن وألم.
"قال ربي إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً..فلم يزدهم دعائي إلا فرارا..وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في ءاذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا..ثم إني دعوتهم جهارا..ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا..فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا"
(3)
وبينما هو في حزنه ويأسه إذ بالوحي ينزل عليه يطمئن نفسه ويستمع :لن يؤمن من قومك إلا من آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون.
فهدأ نفساً واتجه إلى ربه يدعوه .غضب الله عليهم وأمسك عنهم المطر فأصاب الأرض قحطاً وامتنع الزرع عن النمووضاقت بهم سبل العيش واتجهوا إلى آلهتهم يدعونها فلا تستجيب ،فاتجهوا إلى نوح عليه السلام فقال لهم :استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأمول وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً.ولكنهم عموا وصموا وتمادوا في ضلالهم.
يئس نوح من قومه فدعا عليهم وقال :رب لا تذر على الأرض للكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا.فاستجاب الله دعاءه ..
"وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون..واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون..ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون..فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم"
(4)
أمر الله نوحاً أن يصنع سفينة كبيرة فقام هو ومن آمن معه بصنع السفينة وكان الكفار يمرون عليهم وهم يعملون في بناء السفينة فيستهزؤن بهم ولكن نوح عليه السلام كان صابراً على سخريتهم واستهزائهم ،وكانوا يقولون له :وأين الماء الذي تسير فيه سفينتك وكان يقول لهم سيكون ذلك قريباً.
أتم نوح سفينته وجاء الموعد المحدود فأمره الله أن يحمل فيها أهله ، إلا زوجه فقد كانت عاصية كافرة ،ويضع فيها من كل حيوان وطير وزواحف وحشرات وحبوب مختلفة زوجين اثنين ذكراً وأنثى ،وأن يأخذ معه كل من آمن به لأن الله سيغرق الأرض.
اطمأن نوح وهدأ وما هي إلا فترة حتى أظلمت السماء وهبت الرياح ونزل مطر غزير وتفجرت العيون من الأرض وعم الماء كل مكان فحمل السفينة ومن فيها وما فيها .رأى الكفار ذلك فأصابهم ذعر شديد وحاولوا اللجؤ إلى الجبال لتحميهم من الماء ولكن الماء أخذ يعلو ويعلو ويبتلع القوم الكافرين .
"حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن ءامن وما ءامن معه إلا قليل ..وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها أن ربي لغفور رحيم"
رأى نوح عليه السلام ابنه كنعان يصعد الجبل فقال له :يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ،فقال كنعان :سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ،قال نوح :لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم.وابتلع الماء ابن نوح فدعا نوح ربه :رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين.فقال الله تعالى :يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين.فاستغفر نوح ربه واعتذر عما بدا منه من إلحاحه على الله أن ينجي ابنه .
سارت السفينة بين الأمواج وغرق العصاةولم ينج إلا الذين آمنوا ،ثم أمر الله السماء أن تكف عن المطر وأمر الأرض أن تبلع الماء فرست السفينة على جبل الجودي.
وأخيراً خرج المؤمنون وعاشوا في تلك البقعة من الأرض فعمروها ودبت فيها الحياة بعد هذا الطوفان العظيم .
وهكذا انقضت حياة نوح عليه السلام بعد أن عاش ألف سنة إلا خمسين عاماً في جهاد عنيف وصبر طويل.
.....................................................................................................