السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
يعتقد كثير من الناس أن الدين مجموعة من القيم الأخلاقية ..وهذا اعتقاد خاطئ ، إن الدين في حقيقته الأولى أسلوب للحياة والتعامل. ولقد أبرزت قصة سيدنا شعيب هذا المعنى بشكل واضح..
"وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط..ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين..بقيّت الله خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ"
ومدين هو اسم قبيلة سكنت في هذه المنطقة ، وكان عيب آل مدين هو عدم عبادة الله وحده ، وكذلك كانت بينهم خسيسة التطفيف في الميزان ، لذلك جاء سيدنا شعيب إلى قومه يطلب منهم أن يعبدوا الله وألا ينقصوا المكيال والميزان ، ويقول لهم إني أراكم بخير أي أنكم لديكم ما يكفيكم من مال لحياتكم ، وما يغنيكم من سرقة غيركم ، ويقول لهم إني أخاف عليكم عذاب الآخرة الذي لن يفلت منه أحد ، ثم يكرر سيدنا شعيب طلبه مرة أخرى ويقول لهم لا تبخسوا الناس أشياءهم ، والبخس هو الضرر بالنقص أو إنقاص القيمة المعنوية للشئ ، فالإنسان مطالب بعمارة الأرض وإصلاحها ، وأقل الإصلاح أن تترك الصالح على صلاحه ، فإن استطعت أن ترقى به فافعل.
وينبههم سيدنا شعيب بأن الله رقيب عليهم ، ولا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً دون أن يراهم ، وأنه هو لا يستطيع أن يحافظ عليهم من النار ولا يملك لهم شيئاً وليس حفيظاً عليهم ولا حارساً لهم.
فماذا كان رد قومه ؟
"قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد"
وكلام قوم شعيب هنا على شكل تهكم ساخرين ، وخصوا الصلاة بالإنكار دون سائر أحكام النبوة التي دعاهم إليها لأنه كان كثير الصلاة معروفاً بذلك ، وكان رد سيدنا شعيب..
"قال يا قوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب..ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد..واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود"
قال لهم سيدنا شعيب : إن كنت على يقين وحجة ومنهج صادق من ربي فأعطاني الخير كله من علم ورزقني ، وقال لهم لن تجدوني أفعل ما أنهاكم عن فعله أبداً ، وأنا ما أريد إلا الإصلاح ..صلاح مجتمعكم وصلاح أموركم بقدر استطاعتي والله يوفقني لأني أخلصت النية لله تعالى وتوكلت عليه وليس على أحد غيره وإليه مرجعكم جميعاً. ثم يقول لهم سيدنا شعيب :لا تجعلوا عداوتكم لي واختلافكم معي تجعلكم تصرون على ما أنتم عليه من كفر فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط قريبون منكم مكاناً وزماناً ، ويطلب منهم أن يستغفروا ربهم فإن باب التوبة مفتوح والله تبارك وتعالى رحيم ودود لايرد من يقف ببابه ، رحمته سبقت عذابه ومغفرته تسع الذوب جميعاً..
(2)
"قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز..قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهرياً إن ربي بما تعملون محيط..ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب"
عندما طلب شعيب عليه السلام من قومه أن يستغفروا ربهم ويتوبوا إليه قالوا له : نحن لا نفهم ما تقوله والحقيقة أنهم لا يريدون أن يفهموا ، ولولا ضعفك وأنك لا تتحمل الوقوف أمامنا ، ولولا أهلك لقتلناك رجماً بالحجارة فليس لك عزة عندنا وذلك علينا هين . وذكرهم سيدنا شعيب بمن هو أقوى منهم ..تخافون أهلي وهم أفراد وتمتنعون عن إيذائي ولا تخافون الله القادر أن يهلككم ولم تحسبوا له حساب ولم تخشوه ، ثم يلفتهم إلى أن الحق سبحانه وتعالى يعلم كل ما يفعلونه ظاهراً وباطناً.
وبدأ سيدنا شعيب يهددهم ويقول لهم :اعملوا أنتم قدر ما تستطيع الدنيا أن تعطيكم بأسبابها وأما أنا فسأعمل على إبلاغ منهج الله ولن أسكت عن الدعوة وسوف تعلمون قريباً من يأتيه العذاب والخزي في الدنيا والآخرة ، ومن سيكون له النصر.
"قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين..قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد أن نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما."
قال سادة القوم الذين يقفون أمام كل دعوة حق لأنها ستسلبهم الميزات التي يتمتعون بها من أكل حقوق الناس قالوا أنهم سيخرجون شعيب ومن آمن معهم من المكان الذي تتوافر فيه متطلبات الحياة ، أو يعودوا كفار ، رد شعيب عليه السلام : أنهم لو عادوا إلى ملة الكفر يكونوا قد افتروا الكذب لأنهم يعرفون حقيقة الإيمان ، وأنهم قد اختاروا جانب الحق فنجاهم الله تعالى.
(3)
ومضى كل جانب يرتقب ..شعيب والذين آمنوا معه يرتقبون نزول العذاب بالكافرين ، والذين كفروا ينتظرون الفرصة المواتية ليقضوا على شعيب ومن آمن معه.
"ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين"
أوحى الله إلى شعيب أن يخرج ومن آمن معه من القرية وجاء أمر الله ..أدركتهم صيحة جبارة جعلت كل واحد منهم جالساً على ركبتيه وقد ماتوا على هذه الهيئة.
"وإن كان لأصحاب الأيكة لظالمين"
والأيكة مفرد أيك وهوالشجر الكثير الملتف والمثمر ، وشعيب عليه السلام أُرسل إلى أهل مدين وإلى أهل الأيكة
"فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يومٍ عظيم"
لما استمر القوم في تكذيبهم لرسولهم عاقبهم الله تعالى فسلط عليهم الحرارة الشديدة سبعة أيام فالتمسوا غمامة تظلهم رأوها قادمة ، فلما اقتربوا منها أنزلت عليهم ناراً أحرقتهم وأبادتهم.
......................................................................................................