السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
كان في جنوب بلاد العرب عند مجمع البحرين - بحر القلزم والمحيط الهندي- مملكة عظيمة الشأن تسمى مملكة سبأ ، تحكمها سيدة وافرة الذكاء تسمى بلقيس وكانت تعبد الشمس وتجمع في بلاطها ذوي الرأي من أهل العلم والسياسة تستشيرهم في سياسة الرعية وتدبير شئون المُلك.
وكانت بلقيس مغرمة بمظاهر الترف وكانت تقتني القصور العظيمة والأحجار الكريمة والمعادن النفيسة ، وكان لبلقيس على ربوة قصر فخم من المرمر والبلور وبجوار القصر كان هناك معبد تنفذ الشمس إليه من فتحة في أعلى قبّته فتسجد لها بلقيس ويسجد الشعب خلفها.
"وتفقّد الطيرفقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين..لأعذبنّه عذاباً شديداً أو لأذّبحنّه أو ليأتينّي بسلطان مبين..فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين"
يقال أن الطيور كانت تقوم بعمل غطاء فوق عرش سيدنا سليمان لتمنع عنه حرارة الشمس وفي نفس الوقت تقوم برفرفة أجنحتها مما يساعد على تلطيف الهواء .وفي يوم وجد سيدنا سليمان شعاع شمس يخترق هذا الغطاء فعرف أن أحد الطيور وهو الهدهد غائباً فسأل وهو استفهام يتبعه يقين :ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ، فسيدنا سليمان يستبعد أن يتخلف أحد عن القيام بواجبه وقرر أن يكون حازماً معه حتى لا تتكرر أو يكون قدوة لغيره فقال :لأعذبنه أو لأذبحنه ولكن علق أمر العقوبة على حجة الهدهد..ولم يغب الهدهد طويلاً فجاء إلى سيدنا سليمان وقال له بكل ثقة إنه يعرف أمراً لايعرفه هو وهذا ليس نقصاً في علم سيدنا سليمان ولكنه تكريم من الله له حيث سخر له من يخدمه .
"إني وجدت امرأة تملكهم وأُتيت من كل شئ ولها عرش عظيم..وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون..ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون..الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم"
كأن الهدهد يعرف قضية العقيدة وقضية الإيمان ، وأن الخلق لايجب أن يعبدوا إلا الله ولذلك عندما وجد بلقيس وشعبها يعبدون الشمس فاستعجب كيف لا يعبدون الله الذي يخرج الخبء في الأرض ؟ كيف لايعبدون المنعم عليهم بكل النعم ؟وهكذا قص الهدهد القصة على سيدنا سليمان فقال له : سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ،اذهب بكتابي هذا وأعطاه سيدنا سليمان رسالة إلى بلقيس وقال للهدهد انظر ماذا سيفعلون حينما يقرأون رسالتي..
(2)
"قالت يا أيها الملأ إني أُلقي إليّ كتاب كريم..إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم..ألا تعلو عليّ وأتوني مسلمين..قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعةً أمراً حتى تشهدون..قالوا نحن أولوا قوةٍ وأولوا بأسٍ شديدٍ والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين..قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون..وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بما يرجع المرسلون"
حمل الهدهد رسالة سيدنا سليمان إلى بلقيس وألقاها حيث كانت تجلس فلما قرأت بلقيس الرسالة قالت للحاضرين وهم أعيان القوم وأشرافهم والمستشارين وهي قد وصفت الرسالة بأنها كتاب كريم فهي كانت تسمع عن سيدنا سليمان وخاصة عندما قرأت في أول الرسالة بسم الله الرحمن الرحيم فهي تعرف أنه ملك وأنه نبي وكان الخطاب موجز فهويقول لهم لا تعلوا في الأرض ولا تتغطرسون وتزهون بما عندكم من مُلك وأتوني مسلمين.
فلما طلبت بلقيس مشورة القوم قالوا لها :نحن جاهزون للحرب وعندنا القوة والبأس والعدد والعدة ، والأمر لك إن أردت السلم فقولي لنا ماذا تريدين ونحن ننفذ ما تأمرين به .قالت بلقيس إن الذي جاء ليأخذ المُلك يريد أن يأخذ المالكين وينهب ما عندهم ويقوم حكمه على أنقاض الحكم السابق وفضلت بلقيس السلام مع سيدنا سليمان..
"وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون..فلما جاء سليمان قال أتمدونن بما فما أتان الله خيرمما أتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون..ارجع إليهم فلنأتيهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون"
لما تُرك الأمر لبلقيس لتفعل ما تراه مناسباً بدأ عقلها وفطنتها يعملان فقالت : إن كان ملكاً فسيطمع في خيرنا وإن كان نبياً فلن يأبه بهذا الخير ، فأنا سأرسل إليه بهدية وسنرى كيف يقابل حاملي الهدية ولابد أنها هدية تناسب سليمان وبلقيس معاص فهو ملك وهي ملكة ويجب أن تكون هدية ثمينة جداً.
ولكن لما وصلت الهدية سيدنا سليمان رفضها وقال لرسول بلقيس في لهجة حاسمة :أتمونني بمال ؟ إن الله أعطاني من كل شئ وأنتم من يفرح بهدية كهذه..ارجع إلى ملكتك بهديتها ولي تصرف آخر، لسوف أجمع الجنود التي لايمكن التغلب عليهم ونخرجكم من أرضكم أذلاء..وعاد الرسول إلى بلقيس بهذه الأخبار..
(3)
التفت سيدنا سليمان إلى من حوله بعد أن رفض قبول هدية بلقيس وكأن الله قد أعلمه أن القوم سيأتونه مسلمين ، فأراد أن يرسل من يذهب إلى سبأ ويأتيه بعرش بلقيس قبل أن يصل القوم إليه ، ولأن هذا الأمر صعب ويتطلب قدرات خاصة ، لذلك الذي رد عليه ليس إنساناً عادياً وأيضاً ليس الجن العادي ، إنما الذي تكلم عفريت من الجن..
"قال يا أيها الملأ أيكم يأتني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين..قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين..قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم"
إذا كان العفريت وهومكلف يستطيع أن يأتي بعرش بلقيس قبل أن يقوم سليمان عليه السلام من مكانه ، فالذي عنده علم من الكتاب أسرع منه ..بعض العلماء قال أنه آصف وهورجل صالح وآخرون قالوا الذي عنده علم الكتاب هو سيدنا سليمان نفسه فكأن العفريت قال أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك فرد عليه سليمان أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك مخاطباً العفريت..وجاء العرش وشكرسليمان ربه .
وقال سليمان عليه السلام نكروا لها عرشها فهو يريد أن يختبرها ، أتهتدي ؟فنقل العرش بهذه السرعة كان أمراًغير عادي.
ولما أتت بلقيس ورأت عرشها وسألها سيدنا سليمان : أهكذا عرشك ؟ قالت كأنه هو وإن كان هذا ردها فكأنها تقول إننا عرفنا قبل هذه الحادثة أنك يا سليمان نبي وأسلمنا ، وأن سيدنا سليمان بما صنع من أحداث صدها عما كانت تعبد من دون الله .
"قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لُجّة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت ربي إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين"
لما جاءت بلقيس لتدخل إلى القصر وجدت أرضه كأنها ماء ويسبح به سمك ، فرفعت ثيابها حتى لا تبتل فقال لها سيدنا سليمان : ادخلي فهذا صرح ممهد من الزجاج، فكان رد بلقيس :ربي إني ظلمت نفسي بسبب كفري في أول الأمر وأسلمت بلقيس ومعها شعب سبأ بأكمله.
....................................................................................................