السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
خرج موسى ببني إسرائيل من مصر بأمر الله بعد أن أنجاهم الله من فرعون وجنوده . وكان موسى قد واعد بني إسرائيل أن يأتيهم إثر خروجهم من مصر بتعاليم الله التي تبين لهم الحلال من الحرام وتفرق لهم بين الطيب والخبيث ليتبعوها ويسيروا على هداها ، أوحى الله إلى موسى : إن موعدك معنا يا موسى جانب الطور ، فأعدّ نفسك لمخاطبتي بأن تصوم عن الطعام شهراً .
وشرع موسى عليه السلام يعد نفسه لترك قومه والذهاب إلى موعد الله ..فسار وإياهم يبغي الجنوب ، ولكن بني إسرائيل كانوا قد ملّوا السير فأرادوا أن ينزلوا بجوار قوم يعبدون الأصنام مروا عليهم أثناء سيرهم ، وقالوا لموسى :لماذا لا نتخذ لنا إلهاً كما لهؤلاء القوم آلهة ..؟! وحار سيدنا موسى في أمرهم ووقف يعرّفهم بالله حق المعرفة ويبادرهم بالنصيحة بدلاً من أن يعنّفهم فقال لهم : أغير الله أبغيكم إلهاً وهوفضّلكم على العالمين ؟ الله الذي أراكم آياته وأنجاكم من فرعون وجنوده بمعجزته وأورثكم أرضاً سوف تدخلونها ووعدكم بكتاب يرشدكم ويهديكم تتخذون غيره بديلاً ؟ بئس ما تفعلون . قالوا : لقد أجهدنا السير وأضربنا العطش ونود أن ننزل على عين ماء نسقي أولادنا ودوابنا . فاتجه موسى إلى ربه يسأله الماء ، فأمره الله : أن اضرب بعصاك الحجر الذي أمامك يتفجّر لك منه اثنتا عشرة عيناً لذرية كل ولد من أبناء إسرائيل الإثنى عشر عين منها . وضرب موسى الحجر بعصاه فانفجرت عيون الماء وتساقط بنو إسرائيل على الماء يشربون . ثم ذهبوا إلى موسى قائلين :وفرّت لنا الماء ، فأين الطعام ؟ فاتجه موسى عليه السلام إلى ربه يسأله الطعام فاستجاب الله لدعاء موسى وأنزل لبني إسرائيل المن والسلوى ، فكانت المن مادة على أوراق بعض الأشجار حلوة شهيّة والسلوى طائر السماني يأتي إليهم فأكلوا حتى شبعوا ثم ذهبوا إلى سيدنا موسى يشكون الشمس ويريدون ظل يستظلون به ، واتجه موسى إلى ربه مرة ثالثة يسأله الظل لقومه ، فاستجاب الله وساق لهم الغمام الكثيف فوقاهم حر الشمس . وآن لموسى أن يذهب إلى ميقات ربه ، فأوصى بني إسرائيل بعضهم ببعض وجعل عليهم أخاه هارون رئيساً عليهم وعرّفهم أنه سيغيب عنهم شهراً يعود بعده بكتاب الله وتعاليمه التى يسيرون عليها .
(2)
"ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين..قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي فخذ ما أتيتك وكن من الشاكرين"
ذهب موسى للقاء ربه في سفح جبل الطور الأيمن حيث كلمه ربه أول مرة ، واعتكف يعد نفسه لهذا الأمر العظيم فصام لمدة ثلاثين يوماً . وحان ميقات الله ، وأحس موسى أن فمه تغيرت رائحته من أثر الصيام فأخذ نبته من نبات الأرض ومضغها ولفظها ، وإذا بملك قد جاءه يسأله : لم أفطرت يا موسى ؟ قال : كرهت أن أخاطب ربي ولفمي رائحة غير طيبة ، قال الملك : أما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك ؟ ارجع وصم عشرة أيام أخر فلما أتمها صعد فوق الجبل وسمع صوت الله يخاطبه وابتهل موسى إلى ربه يقول : رب أرني أنظر إليك . وأجاب الله موسى : لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني . نظر موسى إلى الجبل ..وتجلى الله تعالى للجبل ودك الجبل دكاً وخر موسى صعقاً ، ثم أفاق فاستغفر ربه :سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين بعظمتك وجلالك . فقال الله : يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي ، فخذ ما أتيتك وكن من الشاكرين . وأعطى الله موسى ألواحاً كُتب عليها فيما ارتضى لبني إسرائيل أن يعملوا به وما أراد أن ينهاهم عنه وبيّن فيها من كل شئ موعظة وتفصيلاً لكل شئ وقال له : خذها يا موسى بقوة واعمل بها بجد واجتهاد وأمر قومك أن يأخذوا بأحسن ما يجدون فيها . ثم قال الله : لماذا عجّلت بالمجئ وتركت قومك وراءك يا موسى ؟ قال موسى : هم أولاء قريبون مني وعجلت إليك ربي لترضى ..قال الله : لقد فتّنا قومك من بعدك وأضلهم السامريّ سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا طريق الرشد لا يتخذوه طريقاً لهم ولا يسيرون فيه ، وإن يروا طريق الغي والضلال يتخذوه طريقاً لهم . رجع موسى إلى قومه ومعه الألواح وهو غضبان آسف لما أخبره الله بما فعله قومه في غيابه . فأقبل عليهم يصيح بهم : بئس ما خلفتموني من بعدي وما صنعتم في غيبتي ، ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً ؟ قالوا : ما أخلفنا موعدك بإرادتنا ولكنا حمّلنا أوزاراً من حُليّ المصريين فأردنا أن نتطهر منها فقذفناها في النار كما طلب منا السامريّ وكذلك ألقى هو ما كان معه منها ثم أخرج لنا هذا العجل وقال لنا هذا إلهكم وإله موسى. وزاد موسى غضباً ووقعت عيناه على أخيه فألقى الألواح من يده وأسرع إليه يأخذ برأسه ويجذبه من لحيته وقال هارون معتذراً : يا أخي لا تأخذ برأسي ولا بلحيتي ولا تجعلني في القوم الظالمين ، إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ، لقد نهيتهم عن اتخاذ العجل إلهاً وقلت لهم : يا قوم إنما هو فتنة ابتليتم بها وإن ربكم هو الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري ولكنهم صمّوا آذانهم عن ندائي وقالوا : لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ، فقال موسى : يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تأخذهم بالشدة ؟ أعصيت أمري ؟ قال هارون : يا أخي خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم تنتظر رأيي . فانصرف موسى عن هارون وهو يقول : ربي اغفر لي ولأخي .
وأتى موسى إلى السامريّ فسأله : ما خطبك يا سامريّ ؟ قال : لقد كنت أعرف ما لا يعرفه القوم ، وأفهم ما لا يفهمون وأبصرت بما لم يبصروا به ، فلما طالت غيبتك عما واعدت قومك عليه ، سوّلت لي نفسي أن أفعل معهم ما فعلت . ونظر موسى إليه نظرة غاضبة وقال له : اذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا يمسني أحد وإن لك في الآخرة موعداً لن يخلفه الله معك ، وسوف ترى إلهك الذي ظللت عليه عاكفاً كيف نحرقه وننسفه في البحر .
وذهب موسى إلى حيث ألقى الألواح فرفعها وصاح على قومه : إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو، وسع كل شئ علماً.
"فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي..قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكن حُمّلنا أوزاراً من زينة القوم فقذفناها وكذلك ألقى السامريّ..فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي"
(3)
أدرك بنو إسرائيل أنهم أخطأوا فقالوا :لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين وذهبوا إلى موسى يبدون ندمهم فقال لهم موسى : إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى الله .
وتخير موسى سبعين رجلاً ليذهبوا إلى جبل الطور لأجل أن يسألوا ربهم التوبة والعفو والغفران ، فلما وصلوا إلى الجبل كلم موسى ربه يسأله التوبة لقومه فلما سمع الرجال موسى ومناجاته لربه كما سمعوا كلام الله لموسى قال بعضهم لموسى : يا موسى إنا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة !!
ونظر موسى إلى السبعين رجلاً الذين تخيرهم من قومه ليكونوا رسلاً عنهم إلى الله فإذا هم قد استجلبوا بسوء تصرفهم سخطه وغضبه ، وخر موسى لله متضرعاً : رب لو شئت أهلكتهم من قبل وأياي ، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين..رب اكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، إنا تبنا إليك . قال الله : عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ، الذين يتبعون الرسول النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة . وأدرك موسى أن الله سيبعث رسولاً تتبعه أمة تكون خيراً من أمته تنال رضاء الله وتنال رحمته.
(4)
واعد موسى قومه أن يعرّفهم حكم ما جاءهم الله به في أسفار التوراة ويبصّرهم بأوامر الله ونواهيه وقبل بعضهم الأوامر وأكثرهم أبدوا ضيقهم وقالوا : إننا لا نستطيع صبراً على هذه التعليمات وليست لنا قدرة على تحمّل هذه الأحكام ، ووجد بنو إسرائيل الجبل يرتفع من فوقهم حتى إذا ما كان فوق رءوسهم ظل معلقاً فوقهم كالظلة . وانبطح بنو إسرائيل على الأرض ذعراً ووجوههم نصفها إلى أعلى تنظر إلى الجبل خشية أن يقع عليهم ، وجاءهم أمر الله على لسان موسى :خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون . وبعد هذه الآية من الله ، أعطى بنو إسرائيل لموسى ميثاق إيمانهم بالله وبتعاليمه .
ولكنهم لم يلبثوا أن عاودتهم نزعة التمرد والعصيان فقالوا لموسى : يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يُخرج لنا مما تنبت الأرض فإنا نريد بقلاً وقثاء وثوماً وعدساً وبصلاً . ونظر موسى إلى القوم وسألهم مستنكراً : أتستبدلون ما أعطاكم الله من الطيبات بهذا الذي تطلبون ؟ قالوا : نعم فما تعودنا في مصر أن نأكل صنفاً واحداً من الطعام . قال : إذن ادخلوا بلداً من البلاد تجدوا فيه ما تطلبون ، فساروا مع موسى نحو فلسطين ليدخلوا الأرض التي وعد الله أن تكون لأبناء إسرائيل .
(5)
أرسل موسى إلى فلسطين عدداً من الرجال يستطلعون أحوال سكانها ، فرأوا سكان فلسطين رجالاً أقوياء عمالقة فهابوهم وسأل بعضهم :كيف لنا بدخول هذه الأرض التي يسكنها مثل هؤلاء القوم ؟ فقال لهم موسى عليه السلام : لقد أمرنا الله أن ندخل الأرض فنقاتل أهلها ووعدنا أن تكون لنا والله لا يخلف وعده . فلما أصبح الصبح كان بنو إسرائيل جميعاً قد علموا بأمر أرض فلسطين وسكانها من العمالقة وأمر الله بقتالهم لهم ، فجزعت قلوبهم وتعاهدوا فيما بينهم ألا يطيعوا موسى وألا يدخلوا هذه الأرض وقالوا : يا موسى إنا لا نستطيع دخول هذه الأرض فقد علمنا أن بها أناساً جبارين ، قال موسى : إن تدخلوها يخرجهم الله منها وتكونوا أنتم بإذن الله الغالبين . قالوا في عناد : إنا لا نستطيع الدخول أبداً ، فصاح موسى يأنّبهم ويلومهم ويذكّرهم بنعم الله عليهم ووعده لهم : يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم أحراراً في نفوسكم وآتاكم ما لم يؤت أحداً غيركم ..يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدّوا على أعقابكم فتصبحوا خاسرين . فكان جواب قومه :يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون . وجاء رجلان من بني إسرائيل أحسّوا بمدى صبر موسى عليهم فقالوا لقومهم : ادخلوا عليهم الباب ، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين .ولكن بني إسرائيل الذين ألفوا الذل قالوا بعناد : يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . ولم يستطع موسى صبراً على هذا العناد فهب يستجير الله من قومه فنادى ربه : رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين . وأجاب الله موسى إلى سؤاله وحكم على بني إسرائيل فقال الله تعالى : فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض .
(6)
وهكذا حُرم بنو إسرائيل من دخول الأرض المقدسة التي خرجوا من مصر ليدخلوها جزاء عنادهم وعصيانهم لا يعرفون لهم بلداً ولا مستقراً. ورغم ذلك ظل بنو إسرائيل على إيذاء نبيهم موسى ومعاندته ولطالما جأر منهم موسى بالشكوى قائلاً : يا قوم لم تؤذونني وأنتم تعلمون أني رسول الله إليكم ؟ وقد بلغ من ضلالهم أن اتهموا موسى بقتل أخيه هارون ولم تبرأ ساحة موسى لدى بني إسرائيل حتى أراهم الله بآياته هارون وليس به أثر لقتل .
مات كل رجال بني إسرائيل الذين آذوا موسى وعصوه وجاء الجيل الذي يليه فدخلوا أرض فلسطين مع يوشع بن نون الذي تولى أمرهم بعد موسى بأمر الله ، ولكن نفوسهم تعودت على العصيان فعصوا أمر يوشع بن نون حين أمرهم أن يسجدوا لله شكراً وهم داخلون أرض فلسطين وأن يقولوا ما أمرهم الله أن يقولوه فبدّلوا بقول الله قولاً آخر وبذلك حق عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون .
.......................................................................................................