السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
خرج إبراهيم عليه السلام مهاجراً من بلده مع أتباعه من المؤمنين ، بعد أن أذاقه قومه من الإضطهاد والعذاب في سبيل دعوته إلى ربه ما أذاقوه.
وكان بصحبة إبراهيم من أهله زوجته سارة ابنة عمه ، وابن أخيه لوط ، وكانا قد آمنا به وجابا معه البلاد فراراً من ظلم قومهم حتى نزلوا حرّان.
ومكث إبراهيم ما شاء الله أن يمكث يدعو الناس إلى دين الله متحملاً في سبيل ذلك ألواناً مختلفة من الإضطهاد والأذى حتى رأى أن يخرج إلى مصر.
ولكن لم يطب لسيدنا إبراهيم أن يقيم بمصر طويلاً وعاد إلى الشام ونزل منطقة السبع بفلسطين وعاش هناك مع زوجته وبسط الله له في الرزق ، ومرة أخرى عاد الكفار فاضطهدوه وآذوه فعزم على الهجرة من جديد إلى أطراف فلسطين .أما إبن أخيه لوط فتوجه إلى سدوم بالأردن حيث بعثه الله نبياً لأهلها.
(2)
مرت الأعوام على إبراهيم عليه السلام وزوجته حتى نالت منهما الشيخوخة وبلغا من الكبر عتيا من غير أن ينجبا ، وكان إبراهيم عليه السلام في شوق شديد إلى ولد صالح تقر به عينه ، وعرفت السيدة سارة هذه الرغبة فعزمت أن تزوجه من جاريتها هاجر.
تزوج إبراهيم عليه السلام من هاجر وأنجبت غلاماً فرح به إبراهيم فرحاً عظيماً وأسماه إسماعيل..يقال أن السيدة سارة قد مس قلبها بعض الغيرة فأخذ إبراهيم عليه السلام زوجته هاجر وابنه إسماعيل وخرج بهما وظل يسير وهما معه حتى نزلوا بوادي مكة ، فأقام إبراهيم لهاجر وإبنها خيمة ، نظرت السيدة هاجر حولها فوجدت نفسها في مكان مقفر مجدب لا زرع ولا ماء ولا ناس فدهشت وتحيرت فيما دعا إبراهيم لإختيار هذا المكان لإقامتها هي وابنها فسألته :
أأمرك ربك أن تتركنا هنا يا إبراهيم ؟ أجاب بنعم قالت :إذن توكل على الله ، فقد وكلتنا إلى من لايضيع عنده الرجاء.ودعا سيدنا إبراهيم ربه :
"ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍغير ذي زرعٍ عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون..ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شئ في الأرض ولا في السماء"
بقيت هاجر وابنها إسماعيل وحيدين ، لايؤنس وحدة هاجر إلا إيمانها بالله حتى فرغ ما لديها من ماء ، فتحيرت في أمرها وأمر ولدها وخرجت تسعى وتبحث عن ماء.
سارت حتى صعدت جبل الصفا ووقفت تترقب لعلها ترى أحداً أو تنظر ماءً ولكنها لم تر شيئاً ، فرجعت وسارت حتى صعدت جبل المروة تستشرف فلم تر شيئاً ، ثم كرت راجعة إلى جبل الصفا ثم إلى المروة وهكذا أخذت في هرولتها هذه بين الصفا والمروة سبع مرات دون أن تعثر على الماء ، فرجعت إلى ولدها حزينة يائسة وهي تحسبه قد فارق الحياة من شدة العطش فوجدته يخبط الأرض بقدمه وقد نبع من بينها الماء ، فأكبت هاجر تسقي ابنها وارتوت هي أيضاً ثم أخذت تحبس الماء بيديها وتزمّه حتى لا ينساح في الأرض لتختزنه بقربها خوفاً من أن يتسرب في الرمال من غير جدوى ومن هنا أطلق على البئر اسم زمزم.
(3)
مكث إسماعيل وأمه زمناً وبدأت قوافل العرب ترد عليهما ذهاباً وإياباً وكانا يأخذان منهم حاجتهما من الطعام .
وكانت عين زمزم التي تفجر ماؤها خير مرغّب للمارين في النزول بهما ، واستهوت العين إحدى القبائل وتُعرف باسم قبيلة جُرْهُم فاستأذنوا السيدة هاجر بالإقامة بجوارها فأذنت لهم وقد سرّها أن تجد أناس تطمئن إلى جوارهم وليتمكن إبنها إسماعيل من تلقي العلم على أيديهم ، وكانت أولى القبائل التي عمرت مكة ثم تلتها قبائل أخرى ، ولم يمض القليل حتى كان وادي مكة المجدب المقفر عامراً بالناس وقد حقق الله لهاجر وابنها دعوة سيدنا إبراهيم لهما حين سأل ربه :فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات.
وأتى خليل الله يرى ما فعل الله بوديعته وفرح بهما وفرحا به وشكر الله على ما أولاه من نعم وعلى ما حباه وحباهما من عطف .
ظل هذا حال سيدنا إبراهيم حتى أمره الله بذبح ابنه ، فقد رأى في نومه هاتفاً يأمره بذبح ابنه إسماعيل ، فهب إبراهيم عليه السلام من نومه مذعوراً واستعاذ بالله من الشيطان وعاود نومه فرأى نفس الهاتف مرة أخرى. ذهب إبراهيم عليه السلام إلى ابنه وقال له :يا بني إني أرى في المنام إني أذبحك فانظر ماذا ترى ؟ قال إسماعيل :يا أبت إفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله صابراً . كان إسماعيل مؤمناً بربه مطيعاً لأبيه فلم يشك في أن ما يقوله والده هو أمر من عند الله.
"وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين..رب هب لي من الصالحين..فبشرناه بغلام حليم..فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام إني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين"
نام سيدنا إسماعيل ليذبحه أبوه وطلب منه أن يكون وجهه لأسفل حتى لا يرى أبوه وجهه فتدركه الرقة فتحول بينه وبين تنفيذ أمر الله ، ولم يكد سيدنا إبراهيم يسحب السكين على رقبة سيدنا إسماعيل حتى سمع منادياً ينادي :يا إبراهيم ، قد صدقت الرؤيا وافتد ابنك بكبش عظيم . نظر سيدنا إبراهيم فوجد كبشاً كبيراً له قرون ملتوية فعرف أن الله قد أرسله فداءً لابنه فذبح الكبش وركع شاكراً ربه .
ألا ما أعظم ما بلاكما الله به يا إبراهيم ويا إسماعيل ..وما أعظم ما قدمتما من رضاء وتسليم..
"فلما أسلما وتله للجبين..وناديناه أن يا إبراهيم..قد صدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين..إن هذا لهو البلاء المبين..وفديناه بذبح عظيم..وتركنا عليه في الآخرين..سلام على إبراهيم..كذلك نجزي المحسنين..إنه من عبادنا المؤمنين"
(4)
كبر إسماعيل واشتهر بين جيرانه بالشجاعة والكرم والشهامة وقوة الإيمان والصبر على الشدائد.فلما ماتت أمه زوجه جيرانه فتاة من بينهم ، وأتى إبراهيم عليه السلام ليزور ولده وكان إسماعيل خارج الدار فلما خرجت له الزوجة سألها إبراهيم عليه السلام عن حالهما أجابت :إننا في شر حال وضيق شديد فقال لها عندما يعود زوجك فأقرئيه السلام وقولي له غيّر عتبة بابك ، وانصرف. فلما عاد سيدنا إسماعيل قالت له زوجته :جاء شيخ كبير وسألني عن معاشنا فأخبرته إننا في بؤس وضيق وشدة فطلب مني أن أقرئك السلام وأن تغيّر عتبة بابك ، فعرفه سيدنا إسماعيل وقال لزوجته إنه أبي وهويطلب مني أن أفارقك ،وطلقها وتزوج من أخرى وبعد فترة تكرر ما حدث مع الزوجة الأولى وسألها سيدنا إبراهيم نفس السؤال فقالت له :نحن بخير وفي سعة من الرزق ولله الحمد فطلب منها أن تقرئ زوجها السلام وأن تقول له أن يثبّت عتبة بابه ، فقد وجدها سيدة صالحة ورضى عنها سيدنا إسماعيل حين علم برضا أبوه عنها .
"واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيا..وكان يأمر أهله باصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا"
(5)
غاب إبراهيم عليه السلام عن إسماعيل عليه السلام ما شاء الله أن يغيب ثم أتاه فوجده جالساً بالقرب من بئر زمزم وكان سيدنا إسماعيل لم يغادر هذا المكان منذ أخذه أبوه مع أمه إليه.
قال سيدنا إبراهيم لسيدنا إسماعيل :لقد أمرني الله بأمر هل أتعينني عليه ؟ قال إسماعيل :أعينك يا أبي في كل أمر قال له إبراهيم :فإن الله قد أمرني أن أبني ههنا بيتاً .
شرع من فورهما في بناء بيت الله ، فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يتخير الأحجار ويناوله إياها وهما يرددان :ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. ولما ارتفع البناء عن طوق إبراهيم ، جاء له إسماعيل بحجر وقف عليه ، وهذا الحجر موجود الآن بجوار الكعبة ويعرف بمقام إبراهيم ، وأتما البناء حتى لم يبق إلا مكان حجر فطلب إبراهيم عله السلام من إسماعيل أن يأتي له بحجر مميز يجعله علماً للناس فذهب إسماعيل يبحث عن الحجر ولما عاد وجد أباه يضع في الموضع الخالي حجراً أسود ولما سأله عنه قال :أتاني به من لم يكلني إليك.
فرغ الخليل وابنه من بناء الكعبة ووقفا يدعيان :ربنا واجعلنا مسلمَيْن لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. وعلم الله إبراهيم وإسماعيل مناسك الحج وفروضه ليعلماها حجاج بيت الله وأمر الله إبراهيم..
"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود"
"وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق"
ودعا إبراهيم ربه..
"وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير"
وبقى إسماعيل يرعى العهدة ثم أسلمها لذريته من بعده ..ومن نسل إسماعيل عليه السلام جاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
.....................................................................................................