السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
بعد أن أغرق الله سبحانه وتعالى قوم نوح الكافرين بطوفانه العظيم ،خرج المؤمنون وتفرقوا في أرجاء الأرض وكونوا شعوباً وقبائل طغوا وبغوا ،وكان من هؤلاء الأقوام شعباً سكن بلاد الأهواز وفارس والعراق ،وكان عليهم ملك اسمه النمرود وكان واسع المطامع يود أن يجتمع له ملك الأرض ،ويتمني لو تنطوي تحت سلطانه الشعوب والقبائل.
كان يقيم في أحد هذه القرى رجل يسمى آزر وصناعته النجارة وصنع التماثيل والأصنام التي يعبدها قومه ،يسويها من الخشب ويبيعها فيشتريها الناس ويضعونها في منازلهم يبركاً بها.جاء لهذا الرجل مولوداً جميلاً سماه أبوه إبراهيم .نما إبراهيم وكان دائم التأمل في الكون ،فكان يصعد إلى أحد الجبال ينظر إلى الشمس والمناظر الخلابة التي تمتد في الأفق ويسأل نفسه :ما هذه المخلوقات ؟ ولمن هي ؟ ومن صنعها ؟..وكان يحدث نفسه : لابد أن يكون لها خالق ..لابد لها من إله..
(2)
كان إبراهيم يرى أباه يقوم يقطع الأشجار ويصنع منها التماثيل فسأله :ما هذا الذي تصنع يا أبي ؟قال له أبوه :هذه تماثيل لنعبدها.فقال إبراهيم :أتعبدون أصناماً تنحتونها بأيديكم من الحجارة والخشب ؟
عندئذٍ غضب آزر على إبراهيم ابنه ونهره بشدة .فذهب إبراهيم وأخذ يفكر ويستعرض ما سمعه من أبيه ويسأل نفسه من جديد :من هو الخالق ؟من هو الرب ؟..ولما جن عليه الليل لمح نوراً يلمع في وسط حلكة الظلام فصاح :لابد أن يكون هذا ربي .وظل بصره عالقاً به حتى غرب النجم وأفل ، فنكس رأسه حزيناً وقال :لا ،ليس هذا رباً ! إني لا أحب الآفلين.وبقى إبراهيم يراقب النجوم حتى بزغ القمر بنوره وجماله فقال :هذا ربي ..وظل شاخصاً إليه يتأمل نوره في خشوع ولكن بعد عدة أيام غاب القمر عن نظره فقال :لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ! وانقضى الليل على إبراهيم وهو تائهاً في تأملاته وأفكاره. ثم طلعت الشمس بنورها الساطع فصاح إبراهيم فرحاً :هذا ربي هذا أكبر ،فلما غابت عند الغروب ولى وجهه شطر قوم أبيه وقال :يا قوم إني برئ مما تشركون...
"وكذلك نُري لإبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين..فلما جن عليه الليل رءا كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الأفلين..فلما رءا القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لإن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين..فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئٌ مما تشركون"
ومرت الأيام على إبراهيم وهو يرى أباه ينفق وقته في صناعة التماثيل والأصنام فتتألم نفسه ويقول لأبيه :لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً ؟ فيُبهت آزر ويقول :أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ؟ألم أنهك أن تتفوه بمثل هذا القول ؟ لئن لم تنته لأرجمنك .ولكن إبراهيم لم يعد مقتنعاً بهذه الأصنام وكان دائم الإستهزاء بها ،وكان يصعد على الجبل حيث يقضي يومه يتعبد لخالقه ويفكر فيه ليعرفه ويهدي قومه إليه.
(3)
فكر آزر في علاج يصرف به ابنه عما به فزوجه من سارة ابنة أخيه ، إلا أنها لم تستطع أن تبعد إبراهيم عن التفكير في خالقه. وبينماهو فوق الجبل كعادته يتأمل في مخلوقات الله أوحى له الله بالحق وأشاع في قلبه نور الإيمان فإذا به يصيح قائلاً :لقد عرفت ربي ..إن ربي جل جلاله لايُرى..إن ربي عظيم يحيط بكل شئ ويعلم كل شئ ويقدر على كل شئ ، وأتى إبراهيم قومه فقال : يا قوم إني برئ مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين.
"إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين..وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً وسع ربي كل شئ علماً أفلا تتذكرون"
وصار إبراهيم عليه السلام من ذلك الحين لا يكف عن نهي الناس عن عبادة الأصنام وحثهم على تركها ليعبدوا الله وحده ، وخشي أبوه أن يصيبه وأهله بسببه ضرر فصار يخاطب ولده باللين تارة ويزجره بالعنف تارة أخرى وإبراهيم ثابت على رأيه ويقول في رفق وحنان :يا أبت ، إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً..يا أبت لا تعبد الشيطان ، إن الشيطان كان للرحمن عصياً ..يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً. فينصرف أبوه عنه غاضباً ويهدده بالضرب والرجم إذا أصر على رأيه..
"واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبيا..إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا..يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سويا..يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا..يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا..قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا..قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا"
وفي يوم قال له أبوه ليحبب إليه الآلهة :يا بني إن لنا عيداً يقام فيه إحتفال عظيم ببيت الآلهة يحضره الجميع ، وأود ألا تتخلف عن مشاهدته وسترى عظمة الآلهة ، فيعجبك ديننا فتؤمن به.
فلما جاء يوم العيد ، حمل الناس الطعام ليضعوه بين أيدي الآلهة وكان إبراهيم عليه السلام معهم كما أمره أبوه ،ولكنه تركهم وقال لهم إني مريض فاتركوني. عاد إبراهيم إلى بيت الآلهة بعد أن ذهب الناس إلى منازلهم فرأى بهو عظيم يتصدره صنم كبير وعلى جانبيه صُفت أصنام أصغر في الحجم ،وأمام هذه الأصنام وضع الناس الطعام الذي كانوا يحملونه. نظر إبراهيم عليه السلام إلى الطعام وقال مستهزئاً :ألا تأكلون ؟ما لكم لا تنطقون ؟ ثم وجد فأساً فأخذها وانقض بها على الأصنام ضرباً وتكسيراً حتى أتى عليها جميعاً ولم يبق إلا الصنم الأكبر فعلق الفأس في عنقه وترك المكان وانصرف.
عاد القوم ليأخذوا الطعام بعد أن باركته الآلهة ، ولكنهم وقفوا في أماكنهم مبهوتين وتساءلوا من فعل هذا بآلهتنا ؟إنه لمن الظالمين.
أجاب نفر منهم :سمعنا فتى يذكرهم يسمى إبراهيم . وأجمع القوم على إتهام إبراهيم لأنه كان دائم الإستهزاء بالآلهة ، فانطلقوا وأتوا بإبراهيم وسألوه :أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ؟ قال وقد أشار إلى الصنم الكبير :بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون.
وتشاور القوم فمنهم من قال إنه على حق ومنهم من نكس رأسه وقال : لقد علمت ما هؤلاء ينطقون.
"ولقد ءاتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين..إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون..قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين..قال لقد كنتم أنتم وأباؤكم في ضلال مبين..قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين..قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين..وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين..فجعلهم جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون..قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين..قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم..قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون..قالوا ءأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم..قال بل فعله كبيرهم هذافسألوهم إن كانوا ينطقون..فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون..ثم نُكسوا على رؤسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون..قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم..أفٍ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون..قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين..قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم..وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين"
قال لهم إبراهيم عليه السلام :أتحاجوني في الله وقد هداني ؟وأنشأ يقدم لهم الأمثال والبراهين على أن الله هو الحق فسأله الملك النمرود :ما هو إلهك قال إبراهيم :ربي هو الذي يحيي ويميت. فضحك الملك ساخراً :أنا أحيي وأميت ..آتي برجلين عملا عملا يستحق القتل فأقتل أحدهما وأعفو عن الآخر فأكون قد أحييته. قال إبراهيم :فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب. فبهت الذي كفر ، وأجمع القوم على حرق إبراهيم حياً وقالوا :حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين.
وبدأالناس بجمع الحطب لإشعال النار.
(4)
أقيمت المحرقة لإبراهيم وأوقدت النار حتى توهجت واشتعلت ، وخرج أهل المدينة يشاهدون الحدث وجئ بإبراهيم محكم الوثاق يسير بخطا متزنة وقد أنزل الله على قلبه الهدوء والسكينة ..فألقي به في النار..وأمر الله النار بقدرته أن يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم.
انفض الناس وظلت النار تأكل حطبها أياماً ثم انطفأت فإذا إبراهيم قائم لم يمسسه سوء ..وسارع الناس إلى إبراهيم يلمسونه ويتحسسونه غير مصدقين وقالوا له :لقد خُيل لنا أن معك في النار أحد فهل كان ذلك حقاً ؟ قال لهم إبراهيم :نعم ، كان ملك أرسله إليّ ربي ليطمئن قلبي. واتبع إبراهيم نفر غير قليل.
(5)
شكر إبراهيم ربه على ما أولاه من النعم ، وقال يناجي ربه :رب أرني كيف تحيي الموتى ؟ قال له ربه : أولم تؤمن ؟ قال إبراهيم :بلى ولكن ليطمئن قلبي .فأمره أن يأتي بأربعة طيور فيذبحها ويقطعها و يمزجها ثم يقسمها ويضع على كل جبل جزاً منها. فلما فعل إبراهيم ذلك قال له ربه :ادعهن يأتينك سعياً فدعا إبراهيم الطيور فجاءت إليه حية تسعى ..عندئذٍ شكر إبراهيم ربه العزيز الحكيم.
اضطهد الكافرون إبراهيم ومن اتبعه وبالغوا في إيذاهم فعزم إبراهيم ومن معه على أن يخرجوا من ديارهم..فهاجر المؤمنون تاركين أهلهم وديارهم وإبراهيم يقول :سلام عليك يا أبي سأستغفر لك ربي ، إنه كان بي حفيا.
"وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم"
.....................................................................................................